في تمام الساعة العاشرة من مساء ليلة البارحة، وبعد أن أنهيت مهامي اليومية وجدت أن هناك ساعة أو أكثر بقليل تفصلني عن موعد الذهاب للسرير فقررت أن استغلها بمشاهدة فلم على التلفاز أو أحد منصات البث الرقمي. كنت أبحث عن فلم يستحق تلك الساعة من وقتي. فلم تاريخي مثلاً أو فلم مبني على قصة واقعية، فلم حاز على رضا النقاد أو تصدر شباك التذاكر. مررت بعدة خيارات جيدة ولكني كنت حريصاً أن يكون الخيار موفقاً. الساعة الآن الحادية عشرة ومازال جهاز التحكم بيدي ولم أقرر بعد أي فلم أشاهد؛ أغلقت جهاز التلفاز وخلدت للنوم !!
منذ نشأت الثورة أو النزعة التسويقية في الولايات المتحدة الأمريكية بدافع الحرية وبدأت الخيارات في حياتنا تتفاقم بشكل متسارع يستعصي على الإدراك. ولم تولد تلك الخيارات إلا تلبية لرغبتنا الملحة والنامية نحو شعورنا بالاستقلال والحرية، وأننا وحدنا من يملك القرار فسارعت الشركات بزيادة خياراتها المطروحة لنفس المنتج بشكل مخيف. تدخل اليوم إلى أحد متاجر البقالة لشراء الخبز أو رقائق الذرة المحمصة لتصدم بكم لا حصر له من الخيارات التي تكاد لا تنتهي، ومن هنا تتشكل حالة الشلل الإدراكي التي تعطل لدينا العملية الردراكية، فيصعب على أغلبنا أن يحلل كل هذا الكم الهائل من الخيارات اللامنتهية في سبيل علبة من رقائق الذرة، ومن هنا تبدأ حالة القلق في دواخلنا بالتضخم تجاه قرار بسيط كهذا. وعلى ذلك قس البيت والسيارة واللون والحذاء والفلم وغيرها أمور كثيرة قد يعطل تحليل خياراتها المتعددة حياتنا، وحتى لا تقلق كثيراً فإن هذه الحالة غالباً تصاحب الباحثين عن المثالية في كل شيء، ولكن المدهش المحزن في نفس الوقت أن كل ذلك الوقت والجهد المبذول لدى المثاليين لا يؤتي ثماره في الغالب لأنه حتى لو استقر على خيار محدد ولو بعد حين سيظل يقارن ويتحسر على عجلته في الاختيار، فلا هو استفاد بعد كل هذا التعب ولا هو ارتاح بعد الاختيار.
في دراسة مشهورة تم وضع رفين من المربى في أحد مراكز التسوق من شركتين مختلفتين، الرف الأول وضعت عليه الشركة ستة أصناف من المربى والرف الثاني وضعت عليه الشركة المنافسة أربعة وعشرين صنفاً من المربى. فكانت النتيجة أن الشركة ذات الستة أصناف باعات أكثر من الشركة المنافسة على الرغم من تعدد خياراتها والتي توحي للمستهل بامتلاك زمام القرار واتخاذه، وزد على ذلك أن نسبة الرضى لدى المشترين من شركة الستة أصناف كانت مرتفعة جداً مقابل عدم الرضى الكافي لدى الآخرين لأنهم أحسوا لوهلة أنهم تسرعوا في الاختيار وأن هناك نوع أخر من المربى كان أفضل في قائمة الأربعة وعشرين صنف.
قد يتهمني البعض أني أدعو في مقالي هذا إلى التسرع أو عدم إضاعة الوقت في البحث عن الأفضل، ولكنني بالعكس أدعو إلى البحث في حاجاتنا أولاً وليس البحث في الخيارات المطروحة، الخيارات في حياتنا متعددة ولا تنتهي أما حاجتنا فتنتهي باختيار ما يسدها. وتذكر أن أغلب خياراتنا قابلة للتغيير والتعديل أياً كانت. قد أشفق على رغبتنا الدائمة في بحثنا الدؤوب عن الأفضل والأجمل والأجود والأرخص إلّا أننا لو قارنّا كل دلك بحاجتنا لوجدنا أننا اخترنا ما يفوق تلك الحاجة بمراحل وأننا ضخمنا المنفعة غير الضرورية لنا. أما القناعة فهي سيدة الموقف ومواقف آخرى كثيرة في حياتنا، فازرع في ذهنك أننا لا يجب أن نكون سادة القرارات، وأن حيتنا لن تسير إن لم يكن خيارنا هو الأمثل. وأخيراً تأكد بأن ما يكفي الحاجة هو خيارنا الآفضل دائماً.
https://www.alyaum.com/articles/6293777
نشر بصحيفة اليوم السعودية
الجمعة ١١ ديسمبر ٢٠٢٠م